بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين اما بعد
لم يكن معنى
الهجرة
هو التخلص من الفتنة والإستهزاء فحسب ، بل كانت الهجرة مع
هذا
تعاونا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن . ولذلك أصبح فرضا
على كل
مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد ، وأن يبذل
جهده في
تحصينه ورفعة شأنه .
ولا شك أن
رسول الله
هو الإمام القائد والهادي في بناء هذا المجتمع وكانت إليه
أزمة
الأمور بلا نزاع.
والأقوام
التي كان
يواجهها رسول الله
في المدينة كانت على ثلاثة أصناف ، يختلف أحوال كل واحد
منها
بالنسبة إلى الآخر اختلافاً واضحاً ، وكان يواجه بالنسبة
إلى كل
صنف منها مسائل عديدة غير المسائل التي كان يواجهها
بالنسبة إلى
الأخرى .
وهذه
الأصناف الثلاثة
هي :
1- أصحابه الصفوة الكرام البررة رضي الله عنهم .
2- المشركون الذين لم يؤمنوا بعد ، وهم من صميم قبائل المدينة
.
3- اليهود .
أ - والمسائل
التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينة
بالنسبة
إليهم كانت تختلف تماماً عن الظروف التي مروا بها في مكة ،
فهم في
مكة وإن كانت تجمعهم كلمة جامعة ، وكانوا يستهدفون إلى
أهداف متفقة
، إلا أنهم كانوا متفرقين في بيوتات شتى ، مقهورين إذلاء
مطرودين
لم يكن لهم من الأمر شيء وإنما كان الأمر بيد أعدائهم في
الدين ،
فلم يكن هؤلاء المسلمون يستطيعون أن يقيموا مجتمعاً
إسلامياً
جديداً بمواده التي لا يستغني عنها أي مجتمع إنساني في
العالم ،
ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ الإسلامية
وعلى
التشريعات التي يمكن العمل بها لكل فرد وحده ، وعلى الحث
على البر
والخير ومكارم الأخلاق ، والاجتناب عن الرذائل والدنايا.
أما في
المدينة فكان أمر المسلمين بأيديهم منذ أول يوم ، ولم يكن
عليهم
سيطرة أحد من الناس ، فقد آن لهم أن يواجهوا بمسائل
الحضارة
والعمران ، وبمسائل المعيشة والاقتصاد ، وبمسائل السياسة
والحكومة
، وبمسائل السلم والحرب ، وبالتنقيح الكامل في مسائل
الحلال
والحرام والعبادة والأخلاق وما إلى ذلك من مسائل الحياة .
كان قد
آن لهم أن يكونوا مجتمعاً جديداً ، مجتمعاً إسلامياً يختلف
في جميع
مراحل الحياة عن المجتمع الجاهلي ، ويمتاز عن أي مجتمع
يوجد في
العالم الإنساني ، ويكون ممثلاً للدعوة الإسلامية التي
عانى لها
المسلمون ألواناً من النكال والعذاب طيلة عشر سنوات .
ولا يخفى أن
تكوين
أي مجتمع على هذا النمط لا يمكن أن يستتب في يوم واحد ، أو
شهر
واحد أو سنة واحدة ، بل لابد له من زمن طويل ، يتكامل فيه
التشريع
والتقنين مع التثقيف والتدريب والتربية تدريجياً ، وكان
الله
كفيلاً بهذا التشريع ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قائماً
بتنفيذه والإرشاد إليه ، وتربية المسلمين وفقهُ
هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم
يتلو
عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وكان
الصحابة رضي الله عنهم مقبلين عليه بقلوبهم ، يتحلون
بأحكامه
ويستبشرون بها
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وليس تفصيل هذه المسائل كلها من مباحث موضوعنا فنقتصر منها
على قدر
الحاجة .
كان هذا
أعظم ما يواجهه رسول الله
بالنسبة إلى المسلمين ، وهذا الذي كان هو المقصود _ على
نطاق واسع
_ من الدعوة الإسلامية ، والرسالة المحمدية ولكن لم يكن
هذا قضية
طارئة . نعم كانت هناك مسائل _ دون ذلك _ كانت تقتضي
الإستعجال .
كانت
جماعة المسلمين مشتملة على قسمين : قسم هم في أرضهم
وديارهم
وأموالهم ، لا يهمهم من ذلك إلا ما يهم الرجل وهو آمن في
سربه ،
وهم الأنصار ، وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد
بعيد ،
وكان بجانب هؤلاء قسم آخر _ وهم المهاجرون _ فاتهم كل ذلك ،
ونجوا
بأنفسهم إلى المدينة ، ليس لهم ملجأ يأوون إليه ، ولا عمل
يعملونه
لمعيشتهم ، ولا مال يبلغون به قواماً من العيش ، وكان عدد
هؤلاء
اللاجئين غير قليل ، وكانوا يزيدون يوماً فيوماً ، فقد
أوذن
بالهجرة لكل من آمن بالله ورسوله . ومعلوم أن المدينة لم
تكن على
ثروة طائلة ، فتزعزع ميزانها الاقتصادي ، وفي هذه الساعة
الحرجة
قامت القوات المعادية للإسلام بشبه مقاطعة اقتصادية ، قلت
لأجلها
المستوردات وتفاقمت الظروف .
ب - أما
القوم الثاني _ وهم المشركون من صميم قبائل المدينة _ فلم
تكن لهم
سيطرة على المسلمين وكان منهم من يتخالجه الشكوك ويتردد في
ترك دين
الآباء ، ولكن لم يكن يبطن العداوة والكيد ضد الإسلام
والمسلمين ،
ولم تمض عليهم مدة طويلة حتى اسلموا وأخلصوا دينهم لله .
وكان
فيهم من يبطن شديد الإحن والعداوة ضد رسول الله
والمسلمين ، ولكن لم يكن يستطيع أن يناوئهم ، بل كان
مضطراً إلى
إظهار الودّ والصفاء نظراً إلى الظروف وعلى رأس هؤلاء عبد
الله بن
أبي ، فقد كانت الأوس والخزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب
بعاث ،
ولم يكونوا اجتمعوا على سيادة أحد قبله . وكانوا قد نظموا
له الخرز
، ليتوجوه ويملكوه ، وكان على وشك أن يصير ملكاً على أهل
المدينة
إذ باغت مجيء رسول الله
وانصراف قومه عنه إليه فكان يرى أنه استلبه ملكاً ، فكان
يبطن شديد
العداوة ضده _ ولما رأى الظروف لا تساعده على شركه وأنه
يحرم
الفوائد الدنيوية أظهر الإسلام بعد بدر ، ولكن بقي مستبطنا
الكفر ،
وكان لا يجد مجالاً للمكيدة برسول الله
وبالمسلمين إلا ويأتي بها _ وكان أصحابه _ من الرؤساء
الذين حرموا
المناصب المرجوة في ملكه _ يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ
خططه ،
وربما كانوا يتخذون بعض الأحداث وضعاف العقول من المسلمين
عملاء
لهم ، لتنفيذ خططهم .
ج- أما
القوم الثالث
_ وهم اليهود _ فقد كانوا انحازوا إلى الحجاز زمن الاضطهاد
الآشوري
والروماني كما أسلفنا ، وكانوا في الحقيقة عبرانيين ، ولكن
بعد
الانسحاب إلى الحجاز صبغوا بالصبغة العربية في الزي واللغة
والحضارة ، حتى صارت أسماء قبائلهم أو أفرادهم عربية ،
وحتى قامت
بينهم وبين العرب علاقة الزواج والصهر ، إلا أنهم تحفظوا
بعصبيتهم
الجنسية ، ولم يندمجوا في العرب قطعاً بل كانوا يفتخرون
بجنسيتهم
الإسرائيلية _ اليهودية _ وكانوا يحتقرون العرب احتقاراً
بالغاً
حتى كانوا يسمونهم أميين بمعنى انهم وحوش سذج ، وأراذل
متأخرون ،
وكانوا يرون أن أموال العرب مباحة لهم بأكلونها كيف شاؤوا
قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ولم يكن لهم تحمس في نشر دينهم وإنما جل بضاعتهم الدينية
هي :
الفأل والسحر والنفث والرقية وأمثالهم ، وبذلك كانوا يرون
أنفسهم
أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية .
وكانوا مهرة
في فنون
الكسب والمعيشة ، فكانت في أيديهم تجارة الحبوب والتمر
والخمر
والثياب كانوا يوردون الثياب والحبوب والخمر ، ويصدرون
التمر ،
وكانت لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، فكانوا يأخذون
المنافع
من عامة العرب أضعافاً مضاعفة ، ثم لم يكونوا يقتصرون على
ذلك بل
كانوا أكالين الربا ، كانوا يقرضون شيوخ العرب وساداتهم
ليكتسب
هؤلاء الرؤساء مدائح الشعراء وسمعة بين الناس بعد إنفاقها
من غير
جدوى ولا طائلة ثم كانوا يرتهنون أرض هؤلاء الرؤساء
وزروعهم
وحوائطهم ثم لا يلبثون إلا أعواماً حتى يتملكونها .
وكانوا
أصحاب دسائس
ومؤامرات وعتو وفساد ، يلقون العداوة والشحناء بين القبائل
العربية
المجاورة ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي لم تكن تشعره تلك
القبائل
، فلا تزال في حروب دامية متواصلة ، ولا تزال أنامل اليهود
تؤجج
نيرانها كلما رأتها تقارب الخمود والانطفاء وبعد هذا
التحريض
والإغراء كانوا يقعدون على جانب ، يرون ساكتين ما يحل
بهؤلاء العرب
، نعم كانوا يزودونهم بقروض ثقيلة ربوية حتى لا يحجموا عن
الحرب
لعسر النفقة ، وبهذا العمل كانوا يحصلون على منفعتين ،
كانوا
يتحفظون على كيانهم اليهودي ، وينفقون سوق الربا ،ليأكلوه
أضعافاً
مضاعفة ويكسبوا ثروات طائلة .
وكانت في
يثرب منهم
ثلاث قبائل مشهورة :
1- بنو
قينقاع ، كانوا حلفاء الخزرج ، وكانت ديارهم داخل المدينة .
2- بنو
النضير .
3- بنو
قريظة ، وهاتان القبيلتان كانتا حلفاء الأوس ، وكانت
ديارهما
بضواحي المدينة .
وهذه
القبائل هي التي
كانت تثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد وقد
ساهمت
بأنفسها في حرب بعاث ، كل مع حلفائها .
وطبعاً فإن
اليهود لم
يكن يرجى منهم أن ينظروا إلى الإسلام إلا بعين البغض
والحقد ،
فالرسول لم يكن من جنسهم حتى ليسكن جأش عصبيتهم الجنسية
التي كانت
متغلبه على نفسياتهم وعقليتهم ، ثم دعوة الإسلام لم تكن
إلا دعوة
صالحة تؤلف بين أشتات القلوب ، وتطفئ نار العداوة والبغضاء
وتدعوا
إلى التزام الأمانة في الشؤون وإلى التقيد بأكل الحلال من
طيب
الأموال ومعنى كل ذلك أن قبائل يثرب العربية ستتآلف فيما
بينها ،
وحينئذ لابد من أن تفلت من براثن اليهود ، فيفشل نشاطهم
التجاري ،
ويحرموا أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم بل
ربما يحتمل
أن تتيقظ تلك القبائل فتدخل في حسابها الأموال الربوية
التي أخذها
اليهود ، فتقوم بإرجاعها أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى
اليهود
في تأدية الربا .
كان
اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن الدعوة
الإسلامية
تحاول الاستقرار في يثرب ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة
ضد
الإسلام وضد رسول الله
منذ أن دخل يثرب ، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا
بعد حين
.
ويظهر
ذلك جلياً بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي
الله عنها .
قال ابن إسحاق : حدثت صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت :
كنت أحب
ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولد
لهما إلا
أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله
المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيي بن
أخطب
وعمي أبو ياسر بن أخطب ، مغلسين ، قالت : فلم يرجعا حتى
كانا مع
غروب الشمس ، قالت : فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان
الهوينى .
قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ،فوالله ما التفت إلي
واحد منهما
، مع ما بهما من الغم . قالت : وسمعت عمي أبا ياسر ، وهو
يقول لأبي
، حيي بن أخطب : أهو هو؟ قال : نعم والله ، قــال : أتعرفه
وتثبته
؟ قال : نعم ، قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله
ما بقيت
.
ويشهد
بذلك أيضاً ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سلام رضي
الله
عنه ، فقد كان حبراً من فطاحل علماء اليهود ، ولما سمع
بمقدم رسول
الله
المدينة في بني النجار جاءه مستعجلاً وألقى إليه أسئلة لا
يعلمها
إلا نبي ، ولما سمع ردوده
عليها آمن به ساعته ومكانه ،ثم قال له : إن اليهود قوم بهت
، إن
علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك ، فأرسل رسول
الله
فجاءت اليهود ودخل عبد الله بن سلام البيت ، فقال رسول
الله
: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : أعلمنا وابن
أعلمنا ،
وأخيرنا وابن أخيرنا ( وفي لفظ : ) سيدنا وابن سيدنا ، (
وفي لفظ
آخر ) خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا ، فقال رسول
الله
: أفرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك (
مرتين
أو ثلاثاً ) فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله
إلا الله
وأشهد أن محمداً رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا
ووقعوا فيه .
وفي لفظ فقال : يا معشر اليهود اتقوا الله ، فوالله الذي
لا إله
إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق .
فقالوا : كذبت
.
وهذه
أول تجربة تلقاها رسول الله
من اليهود ، وفي أول يوم دخل فيه المدينة .
هذا كله
من حيث الداخلية ، وأما من حيث الخارجية ، فإن ألد قوة ضد
الإسلام
هي قريش ، كانت قد جربت منذ عشرة أعوام _ حينما كان
المسلمون تحت
يديها _ كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة وسياسة
التجويع
والمقاطعة ، وأذاقتهم التنكيلات والويلات ، وشنت عليهم
حرباً نفسية
مضنية مع دعاية واسعة منظمة ، ثم لما هاجر المسلمون إلى
المدينة
صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم وحالت بينهم وبين أزواجهم
وذرياتهم ،
بل حبست وعذبت من قدرت عليه ، ثم لم تقتصر على هذا بل
تآمرت على
الفتك بصاحب الدعوة
والقضاء عليه ، وعلى دعوته ، ولم تأل جهداً في تنفيذ هذه
المؤامرة
. وبعد هذا كله _ لما نجا المسلمون إلى أرض تبعد عنها
خمسمائة كيلو
متراً قامت بدورها السياسي لما لها من الصدارة الدنيوية
والزعامة
الدينية بين أوساط العرب ، بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة بيت
الله
وسدنته ، فأغرت غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة حتى
صارت
المدينة في شبه مقاطعة شديدة ، قلت مستورداتها ، في حين
كان عدد
اللاجئين يزيد يوماً فيوماً إن (( حالة الحرب )) قائمة
يقينا بين
هؤلاء الطغاة من أهل مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد
ومن السفه
تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام .
كان
حقاً للمسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة كما صودرت
أموالهم ،
وأن يدالوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا بها ، وأن
يقيموا في
سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموها في سبيل حياة المسلمين ،
وأن
يكال لهؤلاء الطغاة صاعا بصاع ، حتى لا يجدوا سبيلاً
لإبادة
المسلمين ، واستئصال خضرائهم .
هذه هي
القضايا والمشاكل التي كان يواجهها رسول الله
حين ورد المدينة بصفته رسولاً هادياً وإماماً قائداً .
وقد قام رسول الله
بدور الرسالة والقيادة في المدينة وأدلى إلى كل قوم بما
كانوا
يستحقونه من الرأفة والرحمة أو الشدة والنكال _ ولا شك أن
الرحمة
كانت غالبة على الشدة والعنت _ حتى عاد الأمر الإسلام
وأهله في بضع
سنوات .