د . أماني زكريا الرمادي
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين ، حمداً يليق بجلاله وكماله،حمداً على قدر حبه لرسوله الأمين، حمداً يوازي عطاءه للمؤمنين... والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين:
خاتم النبيين،وإمام المرسلين،وقائد الغُر المُحجَّلين؛ سيدنا محمد، وآله وصحبه،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد.
فقد فتُرت علاقة المسلمين - بمرور الزمن،وتتابع الفتن- برسولهم صلى الله تعالى عليه وسلم،حتى اقتصرت- في معظم الأحيان- على الصلاة عليه عند ذكره،أو سماع من يذكره؛أو "التغني به في ليلة مولده أو ذكرى الهجرة أو ليلة الإسراء"(1)... دون أن تكون بين المسلمين وبينه تلك الرابطة القوية التي أرادها الله سبحانه لهم من خلال حبه صلى الله عليه وسلم،والتأسي به في أخلاقه وأفعاله.
وإذا كان المسلمون في عصرنا الحالي - خاصة الشباب منهم- يدَّعون أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم،فإن أفعال بعضهم تؤكد عكس ذلك؛ ربما لأنهم لا يعرفون كيف يحبونه!!
وفي خضم الحياة المعاصرة نجد الأمور قد اختلطت، والشرور قد سادت،وأصبح النشء والشباب يرددون :"نحن لا نجد القدوة الصالحة" ...وبدلاً من أن يبحثوا عنها نراهم قد اتخذوا المشاهير من المفكرين أ و الممثلين السينمائيين، أواللاعبين ،أو المطربين قدوة ومثلاً ... وما نراهم إلا استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!!!
من هنا كانت الحاجة ملحة لأن نعيد إلى أذهاننا وأذهان أبناءنا من الأطفال والشباب الصورة الصحيحة للقدوة الصالحة ،والشخصية التي تستحق أن تُتبع وأن يُحتذى بها.
وفي السطور القليلة القادمة نرى محاولة لإعادة الصورة الواضحة للقدوة المثالية التي تستحق أن تتبع،وتأصيل ذلك منذ الطفولة حتى نبني أجيالاً من الشباب الصالحين الذين يمكن أن يكونوا هم أنفسهم قدوة لغيرهم.
ولا تخفي كاتبة هذه السطور أنها تمنت- أثناء قراءتها لإعداد هذا المقال- أن يوفقها المولى سبحانه لتتصف ببعض صفاته صلى الله عليه وسلم ... وهي الآن تتمنى ذلك أيضاً لكل من يقرؤه ، وعلى الله قصد السبيل،ومنه وحده التوفيق...والحمد لله رب العالمين.
د.أماني زكريا الرمادي
1- ما هو حب الرسول صلى الله عليه وسلم؟
"إن المقصود بحبه ليس فقط العاطفة المجردة، وإنما موافقة أفعالنا لما يحبه صلى الله عليه وسلم ،وكُره ما يكرهه، وعمل ما يجعله يفرح بنا يوم القيامة...ثم التحرق شوقاً للقياه، مع احتساب أننا لا نحبه إلا لله ، وفي الله ،وبالله" (2)
وخلاصة حبنا له أن يكون- صلى الله عليه وسلم- أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأولادنا ؛ فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده" ، فلما قال له عمر: "لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي،قال له صلى الله عليه وسلم:"لا، والذي نفسي بيده،حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فلما قال له عمر:"فإنك الآن أحب إلي من نفسي يا رسول الله" ،قال له:" الآن يا عمر" !!
2- لماذا يجب أن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟؟؟
أ-لأن حبه صلى الله عليه وسلم من أساسيات إسلامنا، بل أن الإيمان بالله تعالى لا يكتمل إلا بهذا الحب!!! وقد اقترن حبه صلى الله عليه وسلم بحب الله تعالى في الكثير من الآيات القرآنية،منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى:" قُل إن كان آباؤكم، وأبناؤكم وإخوانُكم وأزواجُكم ،وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشَون كسادَها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من اللهِ ورسولهِ،وجهادٍ في سبيلِه، فَتربَّصوا حتى يأتي اللهُ بأمرِه،واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقين" ، و" قُل إن كنتم تحبون اللهَ فاتَّبعوني يحبِبِكُم اللهُ "
ب- لأنه حبيب الله الذي أقسم بحياته قائلاً:" لَعَمرُك إنَّهُم لَفي سَكْرَتِهِم يَعمَهون"
والذي اقترن اسمه صلى الله عليه وسلم باسمه تعالى:
* مرات عديدة في القرآن الكريم ،
* و في الشهادة التي لا ندخل في الإسلام إلا بها
* وفي الأذان الذي يُرفع خمس مرات في كل يوم وليلة
كما نرى الله تعالى قد فرض علينا تحيته صلى الله عليه وسلم بعد تحيته سبحانه في التشهد في كل صلاة........ فأي شرف بعد هذا الشرف؟!!!
ج- لأنه حبيب الرحمن الذي قرَّبه إليه دون كل المخلوقات ليلة المعراج ، وفضَّله حتى على جبريل عليه السلام،"كما خصه - صلى الله عليه وسلم- بخصائص لم تكن لأحد سواه،منها: الوسيلة، والكوثر، والحوض،والمقام المحمود"(3)...ومن الطبيعي أن يحب المرء حبيب حبيبه،فإذا كنا نحب الله عز وجل،فما أحرانا بأن نحب حبيبه!!!
د-لأن حبه- صلى الله عليه وسلم- ييسر احترامه، واتباع سنته ،وطاعة أوامره ، واجتناب نواهيه... فتكون النتيجة هي الفوز في الدنيا والآخرة.
هـ-لأن( الله تبارك وتعالى قد اختاره من بين الناس لتأدية هذه الرسالة العظيمة،فيجب أن نعلم أنه اختار خير الأخيار،لأنه سبحانه أعلم بمن يعطيه أمانة الرسالة ،ومادام اصطفاه من بين كل الناس لهذه المهمة العظيمة،فمن واجبنا نحن أن نصطفيه بالمحبة من بين الناس جميعاً)(4)
هـ- لأنه صلى الله عليه وسلم النبي الوحيد الذي ادَّخر دعوته المستجابة ليوم القيامة كي يشفع بها لأمته،كما جاء في صحيح مسلم:"لكل نبى دعوة مجابة، وكل نبى قد تعجــل دعــوته، وإنــى اختبأت دعوتى شفــاعة لأمتي يــوم القيامة" ، وهو الذي طالما دعا ربه قائلاً:"يارب أمتي ، يارب أمتي" ، وهو الذي سيقف عند الصراط يوم القيامة يدعو لأمته وهم يجتازونه،قائلاًً:" يارب سلِّم ، يارب سلِّم"
و- لأنه بكى شوقا إلينا حين كان يجلس مع أصحابه ، فسألوه عن سبب بكاءه، فقال لهم :"إشتقت إلى إخواني"، قالوا :"ألسنا بإخوانك يا رسول الله؟!" قال لهم:"لا"،إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني"!!
ز- لأن المرء مع مَن أحب يوم القيامة"كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم،فإذا أحببناه حقاً صرنا جيرانه- إن شاء الله- في الفردوس الأعلى مهما قصرت أعمالنا،فقد روى أنس بن مالك أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال:"يا رسول الله ،متى الساعة"،قال له:" وما أعددت لها؟"، قال :"حب الله ورسوله"،قال: " فإنك مع مَن أحببت"!!
و-لأن الخالق- وهو أعلم بخلقه- وصفه بأنه " لعلى خلُق عظيم" ،وبأنه:" عزيز عليه ماعَنِتُّم،حريص عليكم ، بالمؤمنين رءوف رحيم" ؛ كما قال هو عن نفسه : " لقد أدَّبني ربي فأحسن تأديبي" ،ولقد ضرب - صلى الله عليه وسلم أروع الأمثال بخُلُقه هذا ،فأحبه،ووثق به كل من عاشره من المؤمنين والكفار على السواء، فنشأ وهو معروف بينهم باسم"الصادق الأمين" ...أفلا نحبه نحن؟!!!
ح- لأن الله تعالى شبَّهَه بالنور -الذي يخرجنا من ظلمات الكفر والضلال، ويرشدنا إلى ما يصلحنا في ديننا ودنيانا- في قوله سبحانه:"قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين"(5) فالإسلام لم يأت إلينا على طبق من ذهب،وإنما وصل إلينا بفضل الله تعالى ،ثم جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصبره وملاقاته الصعاب"(6) ...فما من باب إلا وطرقه الكفار ليثنوه عن عزمه،ويمنعوه من تبليغ الرسالة؛ فقد حاولوا فتنته، بإعطاءه المال حتى يكون أكثرهم مالاً،وبجعله ملكا وسيدا ً عليهم، وبتزويجه أجمل نساء العرب،فكان رده عليهم-حين وسَّطوا عمه أبي طالب-"والله يا عم ، لو وضعوا القمر في يميني،والشمس في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته ،حتى يُظهره الله ،أو أهلك دونه"
ثم هم هؤلاء يحاولون بأسلوب آخر وهو التعذيب الجسدي والمعنوي،(ففي الطائف أمروا صبيانهم ،وعبيدهم برميه بالحجارة،فرموه حتى سال الدم من قدميه،وفي غزوة أُحُد شُقت شفته،وكُسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم،وفي مكة وضعوا على ظهره روث جزور،وقاطعوه وأصحابه حتى كادوا يهلكون جوعاً،وفي غزوة الخندق جاع حتى ربط الحجر على بطنه صلى الله عليه وسلم…ولكنه لم يتوقف عن دعوته، بل واصل معتصماً بربه،متوكلاً عليه) (7)
ز- لأن حبه يجعله يُسَرُّ بنا عندما نراه يوم القيامة عند الحوض فيسقينا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
ح- لأنه هو اللبنة التي اكتمل بها بناء الأنبياء الذي أقامه الله جل وعلا، كما أخبر بذلك أبو هريرة وجاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ((إن َمثَلى ومَثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللبنة ؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين))
3- لماذا هو خير قدوة ؟
أ- لأن الله تعالى- وهو أعلم بنا وبه- قال في كتابه العزيز:"لقد كان لكُم في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنةٌ لمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر"( فلا يعرف قدر رسول اللـه إلا اللـه. وإن قدره عند اللـه لعظيم! وإن كرامته صلى الله عليه وسلم عند اللـه لكبيرة! فقد علِم الله سبحانه أن منهج الإسلام يحتاج إلى بشر يحمله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته،فيحوِّله إلى واقع عملي محسوس وملموس، ولذلك بعثه صلى الله عليه وسلم- بعد أن وضع في شخصيته الصورة الكاملة للمنهج- ليترجم هذا المنهج ويكون خير قدوة للبشرية جمعاء)(
(فهو المصطفى وهو المجتبى... فلقد اصطفى اللـه من البشرية الأنبياء واصطفى من الأنبياء الرسل واصطفى من الرسل أولى العزم واصطفى من أولى العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم اصطفاه ففضله على جميع خلقه… شرح له صدره ،ورفع له ذكره ،ووضع عنه وزره، وزكَّاه في كل شىء :
زكاه في عقله فقال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [ النجم: 2].
زكاه في صدقه فقال سبحانه: وَمَا يَنطِقُ عَن الهوىَ [ النجم: 3].
زكاه في صدره فقال سبحانه: أَلم نَشْرح لَكَ صَدْرَكَ [ الشرح: 1].
زكاه في فؤاده فقال سبحانه: مَاكَذَبَ الفُؤادُ مَارَأىَ [ النجم: 11].
زكاه في ذكره فقال سبحانه: وَرَفعنَا لَكَ ذكْرَكَ [ الشرح: 4].
زكاه في طهره فقال سبحانه: وَوَضعنَا عَنكَ وزْرَكَ [ الشرح :2 ].
زكاه في علمه فقال سبحانه: عَلَّمَهُ شَديدٌ القُوىَ [ النجم: 5 ].
زكاه فى حلمه فقال سبحانه: بِالمؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ التوبة :128].
زكاه كله فقال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلقٍ عَظِيمٍ [ القلم: 4 ].
فهو- صلى الله عليه وسلم- رجل الساعة، نبى الملحمة، صاحب المقام المحمود- الذي وعده اللـه به دون جميع الأنبياء- في قوله : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء-79].
فهذا هو المقام المحمود كما فى حديث مسلم من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر وأنا أول شافع وأول مشفع " )(9)
ب-لأنه إمام الأنبياء الذي صلى بهم في المسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج ، أفنستنكف نحن عن أن نتخذه إماما وقدوة؟!!!
ج-لأنه فُضِّل على الأنبياء - كما جاء في الصحيحين - من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فُضِّلتُ على الأنبياء بسـت: أُعطيـت جوامـع الكلـم (فهو البليغ الفصيح) ونُصرت بالرعـب - وفى لفظ البخارى ((مسيرة شهر)) - وأُحلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بى النبيون)"
د- لأن الله عصمه، وأرشد خطاه ، وسدد رميته، وجعله "لا ينطق عن الهوى"
هـ- لأنه صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا، يفرح ويحزن ،يجوع ويعطش،يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يصوم ويفطر،يمرض،ويتألم، ويصح جسده؛ يتزوج وينجب،ويفقد أولاده، ويفقد زوجاته، ويقيم ويسافر...فهو ( النبي الوحيد الذي نستطيع أن نقتدي به في كل نواحي حياته لأن حياته كانت كالكتاب المفتوح)(10)
(فقد جسَّد حياتنا كلها بالمثل الأعلى...فهو مثلنا الأعلى في المعاملات الاجتماعية،مع الزوجة والأولاد و الأرحام،ثم المجتمع الإسلامي،وهو مَثلنا الأعلى في الأخلاق الفاضلة،وَمثلنا الأعلى في الدعوة إلى الله تعالى والصبر عليها،فهو النور الذي نهتدي به في طريقنا )(11)
و-(لأنه صلى الله عليه وسلم كان قدوة صالحة في حسن رعايته لأصحابه، وتَفَقُّده لهم ،وسؤاله عنهم، ومراقبة أحوالهم، ومحاذرة مقصريهم، وتشجيع محسنهم، والعطف على فقرائهم ومساكينهم، وتأديب الصغار منهم، وتعليم الجهلة فيهم)(12) بألطف وأرق الوسائل وأحكمها.
4- لماذا يجب أن نحببه إلى أطفالنا ؟
أ-لأن مرحلة الطفولة المبكرة هي أهم المراحل في بناء شخصية الإنسان، فإذا أردنا تربية نشء مسلم يحب الله ورسوله، فلنبدأ معه منذ البداية، حين يكون حريصا على إرضاء والديه، مطيعاً ، سهل الانقياد.
ب-لأن الطفل (إذا استأنس بهذا الحب منذ الصغر ، سهل عليه قبوله عند الكبر، فنشأة الصغير على شيء تجعله متطبِّعاً به،والعكس صحيح...فمَن أُغفل في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيراً)(13)
ج- لأن أطفالنا إن لم يحبوه - صلى الله عليه وسلم - فلن يقتدوا به مهما بذلنا معهم من جهد
د-لأن حبهم له سوف يعود عليهم بالخير والبركة والتوفيق في شتى أمور حياتهم،وهو ما يرجوه كل أب وأم.
هـ - "لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز"قُل إن كنتم تحبون اللهَ فاتَّبعوني يُحبِبكُم اللهُ ويغفر لكم ذنوبَكم"،فمحبته صلى الله عليه وسلم تجلب حب الله في الدنيا ومغفرته في الآخرة،فأي كرامة تلك؟!"(14) وهل يتمنى الوالد لولده أفضل من ذلك؟!!!
و- لأن الجنة هي مستقر من أحبه ؛ومن ثم أطاعه ، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كلكم يدخل الجنة إلا مَن أبى،قالوا:"ومَن يأبى يا رسول الله؟"،قال مَن أطاعني دخل الجنة،ومَن عصاني فقد أبى "؛ فهل يتمنى الوالد لولده بعد حب الله والمغفرة إلا الجنة؟!!!
ز- لأن أطفالنا هم الرعية التي استرعانا الله إياها ؛ومن ثم فإن ( الله سبحانه سوف يسأ ل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده - كما يؤكد الإمام بن القيم- فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه ،وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة،وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم بسبب إهما ل الآباء لهم وتركهم دون أن يعلموهم فرائض الدين وسننه،فأضاعوهم صغاراً،فلم ينتفعوا بهم كباراً"(15)
5- كيف نعلم أبناءنا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أولاً: بالقدوة الصالحة
إن أول خطوة لتعليمهم ذلك الحب هو أن يحبه الوالدان أولاً، فالطفل كجهاز الرادار الذي يلتقط كل ما يدور حوله،فإن صدق الوالدان في حبهما لرسول الله ،أحبه الطفل بالتبعية، ودون أي جهد أو مشقة من الوالدين،لأنه سيرى ذلك الحب في عيونهم ،ونبرة صوتهم حين يتحدثون عنه،وفي صلاتهم عليه دائما - حين يرد ذكره،ودون أن يرد- وفي شوقهما لزيارته،وفي مراعاتهم لحرمة وجودهم بالمدينة المنورة حين يزورونها،وفي أتباعهم لسنته،قائلين دائما: نحن نحب ذلك لأن رسول الله كان يحبه،ونحن نفعل ذلك لأن رسول الله كان يفعله،ونحن لا نفعل ذلك لأن الرسول نهى عنه أو تركه،ونحن نفعل الطاعات إرضاءً لله سبحانه ،ثم طمعاً في مرافقة ا لرسول في الجنة...وهكذا يشرب الطفل حب النبي صلى الله عليه وسلم دون أن نبذل جهداً مباشراً لتعليمه ذلك الحب!
فالقدوة هي أيسر وأقصر السبل للتأثير على الطفل، ويؤكد ذلك الشيخ محمد قطب بقوله:"إن من السهل تأليف كتاب في التربية،ومن السهل أيضاً تخيل منهج معين ،ولكن هذا الكتاب وذلك المنهج يظل ما بهما حبراً على ورق،ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك ،وما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه، وتصرفاته،ومشاعره، وأفكاره مبادىء ذلك المنهج ومعانيه،وعندئذٍ فقط يتحول إلى حقيقة"(16)...إذ من غير المعقول أن نطالب أبناءنا بأشياء لا نستطيع نحن أن نفعلها،ومن غير الطبيعي أن نأمرهم بشيء ونفعل عكسه...وقد استنكر البارىء الأعظم ذلك في قوله تعالى:"أتأمرون الناسَ بالبِر وتنسون أنفسَكم وأنتم تتلون الكتابَ ،أفلا تعقلون؟!"(البقرة-44)،وفي قوله جل شأنه:"يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟! كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"
(فإذا اقتدوا بنا تحولوا - بفضل الله - من عبء علينا إلى عون لنا )(17)
ثانياً: بالتعامل مع كل مرحلة عمرية بما يناسبها:
أ- مرحلة ما بعد الميلاد حتى الثانية من العمر:
تلعب القدوة في هذه المرحلة أفضل أدوارها،حين يسمع الطفل والديه يصليان على النبي عند ذكره،أو سماع من يذكره ، وحين يجلسان معا يومي ا لخميس والجمعة- مثلاً- يصليان عليه ،فيتعود ذلك، ويألفه منذ نعومة أظفاره...مما يمهد لحبه له صلى الله عليه وسلم حين يكبر.
كما يمكن أن نردد أمامه مثل هذه الأناشيد حتى يحفظها :
محمد نبينا
أمُّهُ آمِنة
أبوه عبد الله
مات ما رآه
***
"هذا بن عبد الله
أخلاقه القرآن
والرحمة المهداة
عمت على الأكوان"( 18)
ب- مرحلة ما بين الثالثة والسادسة:
يكون الطفل في هذه المرحلة شغوفاً بالاستماع للقصص،لذا فمن المفيد أن نعرِّفه ببساطة وتشويق برسول الله صلى الله عليه وسلم،فهو الشخص الذي أرسله الله تعالى ليهدينا ويعرفنا الفرق بين الخير والشر،فمن اختار الخير فله الجنة ومن اختار الشر فله النار والعياذ بالله،ونحكي له عن عبد الله،وآمنة والدي الرسول الكريم،و قصة ولادته صلى الله عليه وسلم ،وقصة حليمة معه،ونشأته يتيماً( حين كان أترابه يلوذون بآبائهم ويمرحون بين أيديهم كطيور الحديقة بينما كان هو يقلِّب وجهه في السماء ...لم يقل قط" يا أبي" لأنه لم يكن له أب يدعوه ،ولكنه قال كثيراً ،ودائماً:" يا ربي"!!! "( 19)
ومن المهم أن نناقش الطفل ونطلب رأيه فيما يسمعه من أحداث مع توضيح ما غمض عليه منها.
ويستحب أن نحفِّظه الآيتين الأخيرتين من سورتي "التوبة"،و"الفتح"التي تتحدث عن فضائله صلى الله عليه وسلم؛ مع شرح معانيها على قدر فهمه.
كما يمكن تحفيظه كل أسبوع أحد الأحاديث الشريفة القصيرة،مع توضيح معناها ببساطة،من هذه الأحاديث مثلاً :
" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"
"إن الله جميل يحب الجمال"
"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً ان يتقنه"
"خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه"
"إماطة الأذى عن الطريق صدقة"
"لا يدخل الجنة نمَّام"
"من لم يشكر الناس، لم يشكر الله "
"ليس مِنَّا مَن لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا"
" ا لمسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده"
"الكلمة الطيبة صدقة"
"لا تغضب، ولك الجنة"
"تَبسَُّمك في وجه أخيك صدقة"
"الراحمون يرحمهم الرحمن""
"من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"
"خير الناس أنفعهم للناس"
"الدين ا لنصيحة"
"الجنة تحت أقدام الأمهات"
"تهادوا تحابُّوا"
"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"
"جُعلت قرة عيني في الصلاة"
"الحياء من الإيمان"
" آية المنافق ثلاث :إذا حدَّث كذب وإذا وعد اخلف ،وإذا اؤتمن خان"
ج- مرحلة ما بين السابعة والعاشرة:
في هذه المرحلة يمكننا أن نحكي لهم مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال،وحبه لهم ، ورحمته بهم،واحترامه لهم،وملاطفته ومداعبته لهم...وهي مواقف كثيرة فيما يلي نذكر بعضها،مع ملاحظة أن البنت سوف تفضل حكاياته مع البنات،والعكس؛ولكن في جميع الأحوال يجب أن يعرفونها كلها؛ فالقصص تحدث آثاراً عميقة في نفوس الأطفال وتجعلهم مستعدين لتقليد أبطالها.
أ- موقفه مع حفيديه الحسن والحسين،حيث كان صلى الله عليه وسلم يحبهما ويلاعبهما ويحنو عليهما،وفيما يلي بعض المواقف لهما مع خير جد)( 20)
*"عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه قال:"خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً،فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم،فوضعه ثم كبَّر للصلاة فصلى،فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر الرسول الكريم،وهو ساجد،فرجعت إلى سجودي؛ فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة،قال الناس:" يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يُوحى إليك،فقال :"كل ذلك لم يكن،ولكن ابني ارتحلني ،فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته"!!!
* عن عبد الله بن بريدة،عن أبيه،قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران،فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما،ووضعهما بين يديه،ثم قال:"صدق الله<إنما أموالُكم وأولادُكم فتنة>،فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ،فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"
*** روى البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال:" قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده "الأقرع بن حابس التميمي "جالس، فقال الأقرع:"إن لي عشرة من الولد، ماقبَّلت منهم أحداً"،فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ثم قال:"مَن لا يَرحم لا يُرحم"، وروت عائشة رضي الله عنها أن أعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"أتقبِّلون صبيانكم؟! فما نقبِّلهم"،فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أو أملِك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟"
**** وكان صلى الله عليه وسلم يتواضع للأولاد عامة، ولأولاده خاصة،فكان يحمل الحسن رضي الله عنه على كتفه الشريفة، ويضاحكه ويقبله، ويريه أنه يريد أن يمسك به وهو يلعب ،فيفر الحسن هنا وهناك ،ثم يمسكه النبي صلى الله عليه وسلم . وكان يضع في فمه الشريف قليلاً من الماء البارد ،ويمجه في وجه الحسن ،فيضحك، وكان صلى الله عليه وسلم يُخرج لسانه للحسين،فإذا رآه أخذ يضحك .
***** ومن تمام حبه لهما وحرصه على مصلحتهما أنه كان يؤدبهما بلطف مع بيان السبب ،فقد روي أبو هريرة قائلا:"أخذ الحسن بن علي رضي الله تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كخ ،كخ،إرم بها،أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة ؟"
ب- و موقفه مع أخٍ أصغر لأنس بن مالك،وكان يُدعى "أباعمير"، حين علم أنه اشترى عصفوراً،وكان شديد الفرح به ،فكان-صلى الله عليه وسلم- يداعبه كلما رآه قائلاً:"يا أبا عمير مافعل النغير؟" - والنغير صيغة لتصغير "النُغََّّر"،وهو العصفور الصغير- وذات مرة كان صلى الله عليه وسلم يمشي في السوق فرآه يبكي، فسأله عن السبب ،فقال له:"مات النغير يا رسول الله"،فظل صلى الله عليه وسلم يداعبه، ويحادثه ،ويلاعبه حتى ضحك،فمر الصحابة بهما فسألا الرسول صلى الله عليه وسلم عما أجلسه معه، فقال لهم:"مات النغير،فجلست أواسي أبا عمير"!!!
ج- رحمته صلى الله عليه وسلم ( لبكاء الصبي في الصلاة، حتى أنه كان يخففها،فعن أنس رضي الله عنه قال:" ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة، ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم،وإن كان ليسمع بكاء الصبي ،فيخفف عنه مخافة أن تُفتن أمه"،ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بنفسه،فيقول:"إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها،فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكاءه")(21)
هــ -" إصطحابه صلى الله عليه وسلم الأطفال للصلاة و مسحه خدودهم ، رحمة وإعجاباً وتشجيعاً لهم،فعن جابر بن أبي سمرة رضي الله عنه قال:"صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى- أي الظهر- ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحداً واحداً،قال: "وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها صلى الله عليه وسلم من جونة عطار"!!(22)
ز- إعطاؤه صلى الله عليه وسلم الهدايا للأطفال،" فقد روى مسلم عن أبي هريرة قال:" كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه قال:" اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مُدِّنا"، ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر!!!
و- صلاته صلى الله عليه وسلم وهو يحملهم، فقد ثبت في الصحيحين عن "قتادة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب بنت رسول الله ،وهي لأبي العاص بن الربيع،فإذا قام حملها،وإذا سجد وضعها،فلما سلَّم حملها .
ز- إحترامه-صلى الله عليه وسلم- للأطفال ، ودعوته لعدم الكذب عليهم، فقد كان( الصغار يحضرون مجالس العلم والذكر معه،حتى كان أحد الغلمان ذات يوم يجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم،وعلى يساره الأشياخ،فلما أتى النبي بشراب شرب منه ،ثم قال للغلام:"أتأذن لي ان أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام:" لا يا رسول الله ، لا أوثر بنصيبي منك أحداً،فأعطاه له النبي صلى الله عليه وسلم)!! (23)
وعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه ،قال:"دعتني أمي ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت ها تعال أعطك"،فقال لها صلى الله عليه وسلم:" ما أردت أن تعطيه؟" قالت "أعطيه تمرا" ، فقال لها أما أنك لو لم تعطِه شيئا كُتبت عليك كذبة"
ح- وصيته صلى الله عليه وسلم بالبنات-حيث كان العرب يئدونهن في الجاهلية- قائلاً:" من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن، وضرائهن،وسرائهن دخل الجنة" فقال رجل :"و ثنتان يا رسول الله؟" قال:" و ثنتان"،فقال آخر:" وواحدة؟" قال: "وواحدة")(24)
ز- حرصه صلى الله عليه وسلم على إرشادهم إلى الصواب وتصحيح مفاهيمهم وأخطائهم بالحكمة،وبصورة عملية لاستئصال الخطأ من جذوره ؛ ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أن أحد أصحابه- صلى الله عليه وسلم- وكان مولى من أهل فارس قال : "شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة أُحد فضربت رجلاً من المشركين فقلت:"خذها مني وأنا الغلام الفارسي،فالتفت إليَّ النبي وقال:"هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري؟"
وهذا عبد الله بن عمر حين لم يكن يقوم الليل،فقال أمامه الرسول صلى الله عليه وسلم:"نِعم الرجل عبد الله، لوكان يصلي من الليل! فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا"
ح- تعليمه صلى الله عليه وسلم لهم حفظ الأسرار،"فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال:"أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه ،فأسر إلىَّّ حديثا لا أحدث به أحداً من الناس" (25)
ط- رفقه بخادمه "أنس بن مالك" رضي الله عنه،حيث كان يناديه ب"يا بُني" أو" يا أُنيس"-وهي صيغة تصغير للتدليل- يقول أنس:" خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين،والله ما قال لي أف، ولا لِم صنعت ؟ ولا ألا صنعت؟"(26)
ك- (عقده صلى الله عليه وسلم المسابقات بين الأطفال لينشِّط عقولهم ،وينمِّي مواهبهم ويرفع همَّتهم، ويعزِّز طاقاتهم المخبوءة، فقد تصارع "سمرة"، و"رافع" رضي الله عنهما أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرادا الاشتراك في جهاد الأعداء فردهما رسول الله لصغر سنهما،فزكى الصحابة "سمرة" لأنه يحسن الرمي، فأجازه صلى الله عليه وسلم، فقال "رافع" أنه يصارعه- أي أنه أقوى منه- رغم أنه لا يحسن الرمي،فطلب الرسول الكريم منه أن يصارعه، فدخلا معًا مباراة للمصارعة فصرعه رافع، فأجازهما رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
ل- رحمته- صلى الله عليه وسلم- بالحيوان،ومن الأمثلة على ذلك:
* قصته مع الغزالة، فقد روي عن أنس بن مالك انه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم قد اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فسطاط فقالت: يا رسول الله إني أُخذت ولي خشفان(رضيعان) فاستأذن لي أرضعهما وأعود إليهم فقال: "أين صاحب هذه؟" فقال القوم: نحن يا رسول الله"، قال: "خلُّوا عنها حتى تأتى خشفيها ترضعهما وترجع إليكم"، فقالوا من لنا بذلك؟ قال "أنا" فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتراها منهم وأطلقها.
** وقصته مع (الجمل الذي رآه صلى الله عليه وسلم حين دخل بستاناً لرجل من الأنصار،فإذا فيه جمل فما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى حنَّ وذرفت عيناه فأتاه الرسول الكريم فمسح ذفراه فسكت،،فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من رب هذا الجمل؟"
فقال فتى من الأنصار:" أنا يا رسول الله ، فقال له:" ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي أملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي انك تجيعه وتدئبه"(27)
*** وهذا جمل آخر( كانت تركبه السيدة عائشة رضي الله عنها لتروِّضه،فجعلت تذهب به وتجيء ، فأتعبته، فقال لها صلى الله عليه وسلم:" عليك بالرفق يا عائشة")(28)
... وهكذا إلى آخر الحكايات المروية عنه صلى الله عليه وسلم المتاحة بكتب السيرة المعروفة،مما يناسب هذه المرحلة العمرية.
وإذا استطعنا أن نصحب طفلنا معنا لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد التمهيد له عن آداب المسجد - وخاصة المسجد النبوي والمسجد الحرام- وبعد أن نوضح له أ ن الله تعالى يرد عليه روحه حين نصلي عليه، ليرد علينا السلام؛ونوضح له أننا حين ندعو ونحن بجوار القبر الشريف يجب أن نكون متوجهين للقبلة ،فالمسلم لا يدعو إلا الله،ولا يرجو سواه.
كما نعرِّفه فضل الروضة الشريفة، ثم نحرص على أن نصحبه ليقضي بها ماشاء الله له.... فنحن نتكلف الكثير من أجل تعليم أولادنا- لضمان مستقبلهم الدنيوي- والترفيه عنهم،وكسوتهم... إلخ وفي رأي كاتبة هذه السطور أن هذه الزيارة لا تقل أهمية عن كل ذلك ؛ فهي تعلِّمه وترفع من معنوياته، وتزيده قربا من الله و رسوله ،ومن ثمَّ تؤمن له مستقبله في الآخرة عن شاء الله!
وقد ثبت بالتجربة أن هذه الزيارة إذا كانت في المراحل الأولى من عمر الطفل ، فإنها تكون أشد تأثيراً وثباتاً في نفس الطفل، بل وأكثر معونة له على الشيطان،وعلى الالتزام بتعاليم الدين في بقية عمره؛هذا إن أحسن الوالدان التصرف معه أثناء هذه الرحلة المباركة، وساعداه على أن يعود منها بذكريات سعيدة بالنسبة له كطفل.
وإذا أوضحنا له أن هذه الزيارة مكافأة له على نجاحه مثلاً، أو لحسن خُلُقه، أو غير ذلك كان التأثير أبلغ،وكان ذلك أعون له على مواصلة ما كافأناه من أجله.
ومما يعين أيضاً على حبه صلى الله عليه وسلم أن نكافئ الطفل على صلاته على النبي عشر مرات- مثلا - قبل النوم، وبعد الصلاة ،وعندما يشعر بضيق أو حزن...حتى يتعود ذلك.
ثالثاً: مرحلة ما بين الحادية عشرة والثالثة عشرة:
يمكن في هذه المرحلة أن نحكي له - بطريقة غير مباشر ة - عن أخلاق وطباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي أثناء اجتماع الأسرة للطعام أو اجتماعها للتنزه في نهاية الأسبوع ، أو نقوم بتشغيل شريط يحكي عنه في السيارة أثناء الذهاب للنزهة ،مثل شريط"حب النبي صلى الله عليه وسلم للأستاذ "عمرو خالد" مثلاً-أو نهديهم كتباً تتحدث عنه صلى الله عليه وسلم بأسلوب قصصي شيق،مثل: "إنسانيات محمد" لخالد محمد خالد،و"أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" لنجوى حسين عبد العزيز،و" معجزات النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال " لمحمد حمزة السعداوي".
ومما يمكن أن نحكي لهم في هذه المرحلة:
أ- أدب السلوك المحمدي:
كان صلى الله عليه وسلم يجيد آداب الصحبة والسلوك،( فكان إذا مشى مع صحابه يسوقهم أمامه فلا يتقدمهم،ويبدأ من لَقيه بالسلام،وكان إذا تكلم يتكلم بجوامع الكلم،كلامه فصل ، لا فضول ولا تقصير،أي على قدر الحاجة،وكان يقول:"من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه"،وكان يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُل خيراً أو ليصمت"،وكان طويل السكوت ، دائم الفِكر،دمث الخُلُق،ليس بالجافي ولا المُهين،يعظِّم النعمة وإن قلَّت، لا تُغضبه الدنيا وما كان لها،فإذا تعرض للحق لم يعرفه أحد،وكان لا ينتصر لنفسه أبداً، و إذا غضب أعرض وأشاح ،وإذا فرح غض طرفه،كل ضحكه التبسم،وكان يشارك أصحابه في مباح أحاديثهم إذا ذكروا الدنيا ذكرها معهم،وإذا ذكروا طعاماً أو شراباً ذكره معهم،كان لا يعيب طعاما يقدم إليه أبداً،وإنما إذا أعجبه أكل منه وإن لم يعجبه تركه...وهو القائل:"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً،و"إن مِن أحبكم إلىَّ وأقربهم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً "،وسُئل –صلى الله عليه وسلم عن البِر فقال"حسن الخلق"،وسُئل أي الأعمال أفضل،فقال:" حسن الخلق")(29)
(وكان صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على أن يسود الود والألفة بين المسلمين،فكان يوصيهم- فيما يوصيهم- بقوله: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث ،فإن ذلك يُحزنه"
وقوله:"لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه... ولكن توسعوا،وتفسحوا يفسح الله لكم"
وقوله:" لا يحل لرجل أن يجلس بين اثنين إلا بإذنهما"
وقوله :" يُسلِّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد،والقليل على الكثير،والصغير على الكبير"
ويحدثنا "كلوة بن الحنبل"فيقول:" بعثني صفوان بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهَدِيَّة فدخلت عليه، ولم استأذن ولم أسلم ، فقال لي الرسول:"إرجع فقل:" السلام عليكم ،أأدخل؟")(30)
ثم يتجلى سمو خُلُقه وحسن أدبه في حفاظه الشديد على كرامة الكائن البشري -الذي كرَّمه المولى سبحانه- ومراعاته الذكية لمشاعر الناس وأحاسيسهم،ومما يدل على ذلك :أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يواجه أحداً بأخطاءه وإنما كان يقول:
" ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا .." تاركاً الفاعل الحقيقي يحس بذنبه ويعرف خطأه دون أن يعرف الآخرون عنه شيئا.
ويحكي ( معاوية بن الحكم قائلاً : "بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: (يرحمك الله) فرماني القوم بأبصارهم.
فقلت: واثكل أمياه،ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون أفخاذهم.
فلما رأيت أنهم يصمتونني سكت".
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه... فو الله ما قهرني ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس... إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن..!" ) رواه مسلم(31)
وعلى الرغم من كل ذلك ؛ فقد كان دائماً يدعو ربه قائلاً:" اللهم كما حسَّنتَ خَلقي فحسِّن خُلُقي"!!!
ب- الكرم المحمدي:
(كان الكرم المحمدي مضرب الأمثال،فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً وهو يجد ما يعطيه،فقد سأله رجل حُلة كان يلبسها،فدخل بيته فخلعها ،ثم خرج بها في يده وأعطاها إياه،وسأله رجل فأعطاه غنماً بين جبلين،فلم يكن الرجل مصدقاً ،فأسرع بها وهو ينظر خلفه خشية أن يرجع النبي الكريم في قوله،ثم ذهب إلى قومه فقال لهم:" يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر!"...وحسبنا في الاستدلال على كرمه صلى الله عليه وسلم حديث بن عباس الذي رواه البخاري :"قال بن عباس حين سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في في شهر رمضان،حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ،فكان صلى الله عليه وسل أجود من الريح المُرسلة" .
وفيما يلي بعض الأمثلة العجيبة على جوده وكرمه:
* أعطى الرسول الكريم العباس رضي الله تعالى عنه من الذهب ما لم يُطِق حمله.
** وأعطى معوذ بن عفراء ملء كفيه حُليا وذهباً لما جاءه بهدية من رُطب وقِثَّاء.
*** جاءه رجل فسأله، فقال له ما عندي شيء ولكن إبتع علي(أي اشتر ما تحتاجه على حسابي وأنا أسدده عنك إن شاء الله) فإذا جاءنا شيء قضيناه"!!) (32)
ج- الحلم المحمدي:
(كان الحلم - وهو ضبط النفس حتى لا يظهر منها ما يكره قولاً أو فعلا عند الغضب- فيه صلى الله عليه وسلم مضرب الأمثال،ولعل ذلك يظهر فيما يلي من الأمثلة:
* لمَّا شُجَّت وجنتاه صلى الله عليه وسلم وكُسرت رباعيته(السِنَّتان الأماميتان بالفك) يوم أُحد رفع يديه إلى السماء،فظن الصحابة أنه سيدعو على الكفار،ولكنه قال:" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" !!!
** ولما جذبه أعرابي برداءه جذبة شديدة حتى أثرت في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم، وقال الأعرابي :" إحمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ،فإنك لا تحمل لي من مالك ومال أبيك"،حلُمَ عليه صلى الله عليه وسلم ولم يزد أن قال:" المال مال الله وأنا عبده ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي" فقال الأعرابي:"لا"، فقال النبي :"لم؟" قال لأنك لا تكافيء السيئة بالسيئة"،فضحك صلى الله عليه وسلم،ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى آخر تمر!!!
*** لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم ضرب خادماً ولا امرأة قط ، بهذا أخبرت عائشة رضي الله عنه ، فقالت:" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظُلمها قط،ما لم تكن حُرمة من محارم الله ، وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يُجاهد في سبيل الله،وما ضرب خادماً قط ولا امرأة.
ج- العفو المحمدي:
(كان العفو- وهو ترك المؤاخذة ،عند القدرة على الأخذ من المسيء - من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم،وقد أمره به المولى تبارك وتعالى حين تنزل جبريل بالآية الكريمة:"خُذ العفوَ وَأْمُر بالعُرف وأعرِض عن الجاهلين" فسأله صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية،فقال له:" حتى أسال العليم الحكيم"،ثم أتاه فقال :" يا محمد إن الله يأمرك ان تصل من قطعك،و وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك"
وقد امتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه،فنراه:
(ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً- فإن كان إثماً كان ابعد الناس عنه،كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها.
ويتجسد عفوه حين تصدى له "غورث بن الحارث" ليفتك به صلى الله عليه وسلم والرسول مطّرح تحت شجرة وحده قائلاً(نائماً في وقت القيلولة)، وأصحابه قائلون أيضاً، وذلك في غزوة، فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا و غورث قائم على رأسه، والسيف مسلطاً في يده،وهو يقول:" ما يمنعك مني؟" فقال صلى الله عليه وسلم:"الله"!! فسقط السيف من يد غورث ،فأخذه النبي الكريم وقال:" من يمنعك مني؟"
قال غورث:" كُن خير آخِذ" ،فتركه وعفا عنه،فعاد إلى قومه فقال:" جئتكم من عند خير الناس!"
ولما دخل المسجد الحرام صبيحة الفتح ووجد رجالات قريش - الذين طالما كذَّبوه ، و أهانوه ،وعذبوا أصحابه وشردوهم- جالسين مطأطئي الرؤوس ينتظرون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتح فيهم،فإذا به يقول لهم:" يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا:" أخ كريم ، وابن أخ كريم"،قال:" إذهبوا فأنتم الطلقاء!!!" فعفا عنهم بعد أن ارتكبوا من الجرائم في حقه وحق أصحابه ما لا يُحصى عدده!!!
ولما تآمر عليه المنافقون ليقتلوه وهو في طريق عودته من تبوك إلى المدينة ، وعلم بهم وقيل له فيهم،عفا عنهم وقال:" لا يُتحدَّث أن محمداً يقتل أصحابه!!! )(33)
وحين كان الكفار ينادونه ب" مذمم" بدلاً من "محمد"، وغضب أصحابه صلى الله عليه وسلم...كان يقول لهم:" دعوهم فإنما يشتمون" مذمماً"، وأنا "محمد"!!! (34)
د- الشجاعة المحمدية:
(كان صلى الله عليه وسلم شجاع القلب والعقل معاً،فشجاعة القلب هي عدم الخوف مما يُخاف منه عادةً،والإقدام على دفع ما يُخاف منه بقوة وحزم،أما شجاعة العقل فهي المُضي فيما هو الرأي وعدم النظر إلى عاقبة الأمر،متى ظهر أنه الحق...فكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس على الإطلاق! ، ومن أدلة ذلك أن الله تعالى كلفه بأن يقاتل وحده في قوله:" فقاتِل في سبيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إلا نفسك،وحرِّض المؤمنين"(النساء- 84)،ومن بعض أدلة ومظاهر شجاعته صلى الله عليه وسلم ما يلي:
شهادة الشجعان الأبطال له بذلك،فقد قال علي بن أبي طالب ، وكان فارسا مغواراً من أبطال الرجال وشجعانهم :" كنا إذا حمي البأس (اشتدت المعركة)واحمرت الحُدُق(جمع حدقة وهي بياض العين) نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم أي نتقي الضرب والطعان"!!!
وهذا موقفه البطولي الخارق للعادة يوم أُحد حيث ذهل عن أنفسهم الشجعان،ووقف محمد صلى الله عليه و سلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه والتفوا حوله وقاتلوا حتى انجلت المعركة بعد قتال مرير وهزيمة نكراء حلت بالقوم من جراء مخالفتهم لكلامه صلى الله عليه وسلم ،وفي حُنين حين انهزم أصحابه وفر رجاله لصعوبة مواجهة العدو من جراء الكمائن التي نصبها وأوقعهم فيها، وهم لا يدرون... بقي وحده صلى الله عليه وسلم في الميدان يطاول ويصاول وهو على بغلته يقول:" أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب"
ومازال في المعركة يقول:" إلىَّ عباد الله ! إليَّ عباد الله" حتى أفاء أصحابه إليه وعاودوا الكرة على العدو فهزموهم في ساعة .
هذه بعض دلائل شجاعته القلبية ، أما شواهد شجاعته العقلية،فنكتفي فيها بشاهد واحد ،فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد،وهو موقفه من تعنُّت "سهيل بن عمرو" وهو يملي وثيقة صلح الحديبية ،حين تنازل صلى الله عليه وسلم عن العبارة" بسم الله" إلى" باسمك اللهم"،وعن عبارة"محمد رسول الله" إلى " محمد بن عبد الله" ،وقد استشاط أصحابه صلى الله عليه وسلم غيظا،وبلغ بهم الغضب حداً لا مزيد عليه، وهو صابر ثابت حتى انتهت وكانت بعد أيام فتحاً مبينا؛ فضرب صلى الله عليه وسلم بذلك أروع مثل في الشجاعة وبعد النظر وأصالة وإصابة الرأي) (35)
هـ- الصبر المحمدي :
(كان الصبر- وهو حبس النفس على طاعة الله تعالى حتى لا تفارقها،وعن معصية الله تعالى حتى لا تقربها،وعلى قضاء الله تعالى حتى لا تجزع له ولا تسخط عليه- هو خُلق محمد صلى الله عليه وسلم،فقد صبر وصابر طيلة عهد إبلاغ رسالته الذي دام ثلاثاً وعشرين سنة،فلم يجزع يوماً، ولم يتخلَّ عن دعوته وإبلاغ رسالته حتى بلغ بها الآفاق التي شاء الله تعالى أن تبلغها،وباستعراض المواقف التالية تتجلى لنا حقيقةالصبر المحمدي الذي هو فيه أسوة كل مؤمن ومؤمنة في معترك الحياة:
صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قريش طوال فترة بقاءه بينهم بمكة ،فقد ضربوه وألقوا روث الجزور على ظهره ، وسبوه واتهموه بالجنون مرة وبأنه ساحر مرة ،وبأنه كاهن مرة، وبأنه شاعر مرة ،وعذبوا أصحابه وحاصروه معهم ثلاث سنوات مع بني هاشم في شعب أبي طالب، وحكموا عليه بالإعدام وبعثوا رجالهم لتنفيذ الحكم إلا أن الله عز وجل سلَّمه وعصم دمه.
و صبره صلى الله عليه وسلم عام الحزن حين ماتت خديجة الزوجة الحنون التي صدقته حين كذبه الناس، وآوته حين طرده الناس، وأعطته حين حرمه الناس، وواسته حين اتهمه الناس...وصبره حين مات العم الحاني الحامي المدافع عنه ،فلم توهن هذه الرزايا من قدرته وقابل ذلك بصبر لم يعرف له في تاريخ الأبطال مثيل و لا نظير.
وصبره في كافة حروبه في بدر وفي أُحد وفي الخندق وفي الفتح وفي حنين وفي الطائف حين حاربته البلدة كلها ،وفي تبوك فلم يجبن ولم ينهزم ولم يفشل ولم يمل، حتى خاض حروبا عدة وقاد سرايا عديدة ،فقد عاش من غزوة إلى أخرى طيلة عشر سنوات !!! فأي صبر أعظم من هذا الصبر؟!!
و صبره صلى الله عليه وسلم على الجوع الشديد،فقد مات صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير مرتين في يوم واحد قط!!!وهو الذي لو أراد أن يملك الدنيا لملكها ولكنه آثر الآخرة ونعيمها)(36)
الرحمة المحمدية
كان صلى الله عليه وسلم يرحم الناس( رحمة الأقوياء الباذلين وليست رحمة الضعفاء البائسين،وكان يمارسها ممارسة مؤمن بها، متمضخ بعطرها، مخلوق من عجينتها)(37)
حتى أن ربه قال عن رحمته صلى الله عليه وسلم لسائر الخلق"وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"،وقال عن رحمته للمؤمنين خاصة:" بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم"
وحين أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فخرج إلى الطائف،وقف أهلها في صفين يرمونه بالحجارة ،فدميت قدماه الشريفتان ، وشكا إلى الله تعالى ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس ...فنزل جبريل عليه السلام ، (وقال يا محمد:" لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين "جبلين بمكة" لفعلت" ، فقال له رسول الرحمة والتسامح:" لا ، لعل الله يخرج من بين ظهرانيهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا" ، و قد صحت نظرة الرحمة والحلم المحمدية ، ودخل الناس في هذه الأماكن وغيرها في دين الله أفواجا !!!
وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً حتى في مقاتلته لأعداء دينه،فقد كان يوصي جيشه المقاتل بألا يضرب إلا من يضربه أو يرفع عليه السلاح ، وكان يقول" لا تقتلوا امرأة ولا وليداً ولا شيخا ولا تحرقوا نخيلا ولا زرعا، كما كان يحرص على عدم التمثيل بهم أو المبالغة في إهانتهم ، فيقول :" إجتنبوا الوجوه ولا تضربوها"!! )(38)
(وورد في البخاري مما رواه أنس رضي الله عنه أن غلاماً يهودياً كان يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما مرض،عاده الرسول الكريم فقعد على رأسه وقال له :" أسلِم " فنظر إلى أبيه و هو عنده،فقال:"أطع أبا القاسم"، فأسلم الغلام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:" الحمد لله الذي أنقذه من النار"!!)(39)
وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالضعفاء رحمة بهم، فنراه يوصي باليتامى قائلا:" خير البيوت بيت فيه يتيم مُكرَم"؛ وبالنساء قائلاً: " إستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خُلقن من ضلع أعوج"؛وبما ملكت الأيمان،(فنجد آخر كلماته صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة:" الصلاة، وما ملكت أيمانكم،حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه!!!) (40)
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته( أنه كان يتلو قول الله تعالى في إبراهيم:" رب إنَّهُنَّ أضْلَلْن كثيراً من الناس فَمَن تَبِعني فإنَّه مِنِّي ومَن عصاني فإنك غفورٌ رحيم" ، وقول عيسى:" إن تعذِّبهُم فإنَّهم عبادُك وإن تغفرلهم فإنك أنتَ العزيزُ الحكيم"
فرفع يديه قائلاً:" اللهم أمتي أمتي" وبكى،فقال الله عز وجل- وهو أعلم-:" يا جبريل إذهب إلى محمد فسله:" ما يبكيك؟" فاتاه جبريل فسأله ،فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى:" يا جبريل إذهب إلى محمد فقل له:" إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوؤك")(41)
الوفاء المحمدي
(كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم باهراً،فقد كان وفياً لربه،ووفياً لحاضنته، ووفياً لزوجاته،ووفياً لأصحابه، ووفيا ًلسائر الكائنات.
فقد سألته السيدة عائشة يوماً حين كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه لماذا يجهد نفسه بهذا الشكل وقد غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان رده صلى الله عليه وسلم:" أفلا أكون عبداً شكورا" ؟!!!!
(وذات يوم زارته با